صحيفة ووكالة
الإخبارية المستقلة
السبت 2025/9/6 توقيت بغداد
معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين
مردوخ سلّعَ الصحافة وترامب شيطنها.. كرو نعمة


المشاهدات 1149
تاريخ الإضافة 2025/08/11 - 11:31 AM
آخر تحديث 2025/09/05 - 10:36 PM

مردوخ سلّعَ الصحافة وترامب شيطنها

 

كرم نعمة

كاتب عراقي مقيم في لندن

 

لأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لن يتوقف من إذلال الصحافة، فهو ينظر إليها مجرد بذرة شيطانية ومنصة لترويج الأكاذيب، لكن حتى في معركته الحالية مع ترامب لا يمكن أن يكون امبراطور الإعلام روبيرت مردوخ حاميا لجوهر الصحافة.

ترامب يقاضي مروخ مالك صحيفة وول ستريت جورنال مطالبًا بتعويض قدره 10 ملايين دولار بسبب تقرير عن صلته بجيفري إبستين، مرتكب جرائم جنسية شهيرة، في الوقت نفسه، يواصل الرئيس الأميركي حملته المتغطرسة على الإعلام، يسحب التمويل الفيدرالي، يمنع المراسلين، ويطلق دعاوى قضائية بمليارات الدولارات، تهدد بانهيار وسائل إعلام كبرى، أو تدفعها لتغيير سياساتها التحريرية، أو قبول تسويات مذلة.

لكن مردوخ ليس فارسا طرواديا للدفاع عن الصحافة كي نصفق له، فعندما استولى على وول ستريت جورنال، بدا أن دافعه الأساسي أكثر من الأيديولوجية أو حتى المال، كان حب الأزمات، واللحظة التي يبدو فيها أن كل شيء على وشك الضياع.

نفس الشيء قاله لنا كمعنيين عرب بالصحافة في قمة أبوظبي للإعلام الأولى عام 2010 “عليكم أن ترفعوا أشرعتكم فالقادم في سوق صناعة الاعلام أسرع من أن ينتظر أحد” كانت نبوءة رجل يعرف جيدا كيف يحوّل المهنة إلى سوق، والكلمة إلى سلعة.

ذلك ما يفككه آلان روسبيرديغر، رئيس تحرير صحيفة الغارديان السابق، في كتابه “كسر الأخبار” عندما أشار إلى قيام مردوخ من قبل بتسعير صحفه بمبالغ ضئيلة جدا تصل إلى أقل من سعر التكلفة من أجل الاستحواذ على الجمهور، وهو نفسه الذي طالب فيما بعد بفرض رسوم على دخول القارئ على موقع صحفه على الإنترنت. منطق السوق لا يرحم: افتح السوق بتراب الفلوس، ثم أغلقه بالاشتراكات.

هكذا يبدو المشهد: مردوخ “سلّعَ” الصحافة وترامب “شيطنها”. رجلان على طرفي نقيض، يتشاركان في تدمير الصحافة في زمن غير عادل بحقها وكل بطريقته. فما بين زلزال الأخلاق ومصالح السوق، إمبراطور الإعلام الذي حوّل الصحافة إلى سلعة، يبدو اليوم وكأنه آخر المدافعين عنها.

جملة روسبيرديغر وبعد سنوات من كتابتها لا تزال تلسعنا فـ “روبرت مردوخ لم يأتِ إلى الصحافة ليحميها، بل ليشتريها”. ومنذ أن اشتراها، جرّدها من وظيفتها الأخلاقية. حوّلها إلى منصة صراخ. جعلها سلعة تُباع، وصوتًا يُؤجَّر. لم يكن الناشر الذي يخشى على المهنة، بل رجل السوق الذي يريد مضاعفة الأرباح، مهما كلّف ذلك من الحقيقة. في شبكته الإعلامية، وخصوصًا “فوكس نيوز”، كانت الصحافة أداة تعبئة، لا مساحة سؤال. كانت المنبر الذي مجّد ترامب سنوات، قبل أن ينقلب عليه. لم يكن ذلك بسبب صحوة مهنية، بل لأن الكاميرا توقفت عن جلب المشاهدات، والإعلانات توقفت عن التدفق.

لذلك حين يتحوّل الخلاف بين مردوخ وترامب إلى عنوان دفاع عن حرية الصحافة، يبدو المشهد كاريكاتوريا. فالأول قضى عقودا يُفرّغ الصحافة من معناها، والثاني جعل “العدو الأول” في خطابه هو الإعلام نفسه. وفي ظل منطق السوق الذي فرضه مردوخ، أصبحت الأخبار شيئًا يمكن بيعه. والشيء الذي يمكن بيعه، يمكن أيضًا قتله إذا لم يعد يربح.

بهذا المنطق، تتحوّل الصحافة من وظيفة اجتماعية إلى استثمار مضارب. من مشروع معرفة وديمقراطية حرة لتبادل المعلومات، إلى مشروع مال. ومردوخ لم يتظاهر يومًا بعكس ذلك.

اليوم، حين يخوض حربًا إعلامية ضد ترامب، فهو لا يفعل ذلك باسم المهنة، بل باسم الشركات، والأسهم، والمعلنين. هي معركة على مستقبل امبراطوريته، لا على مصير الحقيقة. ولذلك، فإن مردوخ ليس حامي الصحافة، ومثلما لا يمكن للجلاد أن يتقمص دور الضحية، لا يمكن لمردوخ أن يظهر فجأة في زيّ حارس الصحافة. لقد كسرها بيديه، وما زال يربح من حطامها.

 


تابعنا على
تصميم وتطوير