صحيفة ووكالة
الإخبارية المستقلة
السبت 2025/9/6 توقيت بغداد
معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين
المواطن المُمثل!..د. ياسر عبد العزيز


المشاهدات 1093
تاريخ الإضافة 2025/08/19 - 10:33 AM
آخر تحديث 2025/09/05 - 9:13 PM

 

المواطن المُمثل!

د. ياسر عبد العزيز

 

لقد شاع استخدام مصطلح «المواطن الصحافي» بقوة منذ انبلج عهد وسائل «التواصل الاجتماعي». وفي طيات هذا المصطلح، تم التوافق على أن تلك الوسائط الرائجة منحت الإنسان الفرد العادي - مهما كانت خلفيته العلمية أو ثقافته أو مهنته - الفرصة لكي يكون صحافياً، ينقل الأخبار للناس، في وقتٍ ما، ما دام يمتلك هاتفاً ذكياً، وصلةً بـ«الإنترنت»، وحساباً على أحد التطبيقات الشهيرة.

وبسبب شيوع هذا المصطلح، وما نتج عنه من ممارسات إعلامية مُلتبسة ومُثيرة للجدل؛ فقد أضحى موضوعاً مشوقاً ومهماً للبحث والدراسة، وصدرت بشأنه تقييمات علمية كثيرة، ركز أغلبها على حسابات التكلفة والعائد؛ أي المقارنة بين فوائد هذه الممارسة من جانب، والمشكلات التي تنجم عنها من جانب آخر.

لكننا اليوم أمسينا بصدد مصطلح مشابه جديد؛ وهو هذه المرة يتعلق بـ«المواطن المُمثل». وشاهد هذا التطور يظهر في نتائج بعض المسوح العلمية، التي أفادت بحدوث تحول جماهيري كبير نحو فنون «الأداء» على المنصات الاجتماعية، خصوصاً بعدما ظهر أن نحو 65 في المائة من أفراد جيل «زد»، في الولايات المتحدة الأميركية، يقدمون أنفسهم بوصفهم «صُنّاع فيديو».

نعم. صُنّاع فيديو. فهم ليسوا مستخدمين عاديين لهذه الوسائط. وليسوا باحثين عن الأخبار، أو المتعة والترفيه من دون عائد. وليسوا باحثين عن التواصل والألفة والمشاركة فقط. لكنهم «مؤدّون»، وأيضاً «مؤثرون» و«فنانون».

«المواطن المُمثل» بات حقيقة ساطعة، وأعداد من يؤدون هذا الدور في ازدياد، وهذا الأمر لا يحدث فقط في الغرب المنفتح والليبرالي، لكنه يحدث كذلك في أكثر البيئات محافظةً وانغلاقاً، في مناطق مختلفة من العالم.

ثمة أربعة «مواطنين ممثلين» على الأرجح؛ أولهم هذا «المواطن المُمثل» الذي يستخدم تطبيق «تيك توك»، فيختار مقطعاً تمثيلياً ذائعاً أو مثيراً للاهتمام، أو أغنية شهيرة ذات نزوع درامي، ثم يشغل صوت هذا المقطع، ويحجب صورة المؤدين الحقيقيين، ويقوم هو نفسه بتمثيل المشهد، حيث يحاكي بشفاهه الكلمات الواردة في المشهد التمثيلي أو المقطع الغنائي، ويجتهد في تبديل الإيماءات، سعياً لإحداث الأثر، الذي يكون كوميدياً في الغالب.

أما المُمثل الثاني، فيلجأ إلى مسرحة الواقع؛ بمعنى أنه يصور مشهداً تمثيلياً، ويقدمه كما لو كان حقيقة، وهنا تفيد الدراسات العلمية بأن قطاعاً من الجمهور، خصوصاً في أقل الفئات وعياً وتعليماً، يصدّق هذه الممارسة، ويعدها جزءاً من الواقع، وهنا تتنقل تلك الممارسة إلى باب الأخبار المُضللة.

 

وثمة ممثل ثالث، يفتح الكاميرا، ويرتجل مشهداً تمثيلياً، ثم يبثه، وينتظر إشارات الإعجاب والمشاركة، وربما يستخدم أشخاصاً آخرين معه في المقطع المسرحي الذي يقدمه، وقد يستخدم مؤثرات بصرية وصوتية لإضفاء المزيد من الجاذبية.

وأما المُمثل الرابع، فهو أكثرهم إخلاصاً لفكرة الأداء؛ إذ يطور ورشة كاملة لممارسة عمله، ويأتي بممثلين مساعدين، بعضهم من أفراد عائلته، أو أصدقائه، وهو يجتهد في تطوير نَصّ مبدئي على الأرجح، ويدير الكاميرا ليصور مشاهده، وفي أغلب الأحيان، فإنه يختار موضوعات اجتماعية حادة وصادمة.

ومن بين الموضوعات التي تجد رواجاً بين هؤلاء الممثلين الجدد، حالات الخيانة الزوجية، أو الصدمات العاطفية، أو عقوق الوالدين، أو الأمانة المطلقة، أو الغدر والكذب البواح، فضلاً بالطبع عن المشاهد الكوميدية.

ينتهج «المواطن المُمثل» في مثل هذه المعالجات نهجاً ميلودرامياً عادة؛ لأن الميلودراما تمنح تأثيراً عاطفياً حاداً وممتد الأثر في نفوس المشاهدين؛ فيُفرط في تصوير الظلم أو القسوة أو الخيانة، ويُفرط أيضاً في إظهار ضعف المظلومين والمضطهدين، قبل أن تأتي لحظة التنوير، وتُرد الحقوق إلى أهلها، وتتدخل الأقدار لتُنصف المظلومين، وتقتص من الظالمين.

تستدعي ظاهرة «المواطن المُمثل» علوماً عدة تتشارك في الاهتمام بها، بعضها يخص فنون الأداء نفسها، وبعضها الآخر يقع في باب التحليل النفسي والاجتماعي. ورغم أن البعض قد يجد في هذا المنحى فرصة لاكتشاف مواهب جديدة، وهو أمر تعززه الأنباء عن استعانة بيوت الإنتاج الفنية بعدد من «الممثلين الجدد»، الذين برزوا على الوسائط؛ فإن التحذيرات من مثالب هذا الاتجاه تتزايد.

وبعض هذه التحذيرات يتعلق بإساءة استخدام العلاقات الاجتماعية في صنع المشاهد التمثيلية، وما ينطوي عليه ذلك من انتهاك الخصوصية، أو توظيف كبار السن، أو الأطفال؛ لجلب الاهتمام والمشاهدات، ومن ثم الربح المادي، وهي أمور أخلاقية وقانونية يجب أن تخضع للمراجعة والتقييم والمساءلة.

لا يمكن القول إن ظاهرة «المواطن المُمثل» سلبية على الإطلاق؛ إذ إنها تتجاوب مع مفاهيم حرية التعبير وتعزيز الإبداع، لكن تحول قطاع كبير من مستخدمي الوسائط إلى «ممثلين»، من دون إخضاع هذا الأداء للتقييم، يمكن أن يفجّر مشكلات كبيرة.

«المواطن المُمثل» ظاهرة «سوشيالية» تتصاعد باطراد، وستكون موضوعاً للاهتمام والبحث في وقت قريب.

نقلا عن " الشرق الأوسط"


تابعنا على
تصميم وتطوير