صحيفة ووكالة
الإخبارية المستقلة
السبت 2025/9/6 توقيت بغداد
معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين
الهوية واللغة والطبقة الاجتماعية: بين ويليام لابوف وإبراهيم كُبّة


المشاهدات 1077
تاريخ الإضافة 2025/08/20 - 10:14 AM
آخر تحديث 2025/09/05 - 9:25 AM

الهوية واللغة والطبقة الاجتماعية: بين ويليام لابوف وإبراهيم كُبّة

 

مظهر محمد صالح

 

كان العام 2004 قد غيّب عالمين جليلين قلّ نظيرهما، أمسك كلٌّ منهما بخيط واحد من عِلمٍ تقوم مداخله ومخارجه على مدرسة في اللغات عُرفت باسم اللسانيات الاجتماعية (Sociolinguistics).

هذه المدرسة التي تُعنى بدراسة العلاقة بين اللغة والمجتمع، ارتبطت باسم عالم اللسانيات الأمريكي ويليام لابوف (William Labov، 1927–2004)، أستاذ جامعة هارفرد، والذي يُنظر إليه كأب مؤسّس لعلم اللسانيات الاجتماعية وأحد أبرز علماء اللغة في القرن العشرين. ركّز لابوف على قضايا مثل: اللهجات، الفصحى والعاميات، اللغة والهوية، واللغة والطبقة الاجتماعية. وأثبت أنّ الاختلافات اللغوية ليست انحرافًا عن “اللغة الصحيحة”، بل أن لها قواعدها وتاريخها الاجتماعي.

ومن أبرز أبحاثه كتابه الشهير التدرج الاجتماعي للغة الإنجليزية في مدينة نيويورك (The Social Stratification of English in New York City)، حيث حلّل ، كيف يختلف النطق تبعًا للطبقات الاجتماعية، وكيف تتحوّل اللهجة المحلية مع تغيّر الهوية الثقافية للسكان.

كما درس الظاهرة في جزيرة مارثا فينيارد عام 1966، مؤسسًا لفرع جديد من دراسة العلاقة بين الهوية واللغة والمجتمع.

أما في العراق، فقد غاب في العام نفسه الاقتصادي والمفكّر الكبير إبراهيم كُبّة (1919–2004). نسمّيه “عالِمًا” لأنه لم يكن مجرّد كاتب أو سياسي، بل قدّم إسهامات علمية رصينة في الاقتصاد وتاريخ الفكر الاقتصادي والفكر الاجتماعي. استخدم النقد الماركسي كأداةٍ لتفكيك التيارات الفكرية الاقتصادية، دون تعصّب أيديولوجي، فكان صاحب مدرسة فكرية في الاقتصاد، لا منتمٍ لحزبٍ أو أيديولوجيا ضيقة.

إلى جانب كونه اقتصاديًا مرموقًا، امتلك إبراهيم كُبّة معرفة بسبع لغات أوروبية، جعلته يتتبع أصولها وتأثيراتها في المشرق العربي، وهو ما وضعه في تماس مع اللسانيات والمجتمع والاقتصاد معًا. كان يبحث في اجتماعيات الاقتصاد ، في بنية الفكر الاقتصادي وعلاقته باللغات والمجتمعات، ما جعله أقرب إلى عالم لسان واقتصاد في آن واحد.

تميّز كُبّة بصرامته الأكاديمية وقدرته على الفصل بين الخطاب السياسي والدراسة العلمية. وفي زمنٍ هيمن فيه الجدل الأيديولوجي، جاء كُبّة ليؤسّس خطابًا أكاديميًا صارمًا يستند إلى النظرية والبيانات والتحليل النقدي. وخلّدته كتبه كأعمالٍ مرجعية لا مجرد ترجمات أو تبسيطات ، مثل الاقتصاد السياسي والرأسمالية المعاصرة والاقتصاد العراقي وكتاب دراسات في تاريخ الاقتصاد والفكر الاقتصادي.

 

ولعل أجمل أمثلته التعليمية كانت حين يشرح لطلابه تبدّل اللهجات والطبقات الاجتماعية عبر مئة كيلومتر في العراق، أو حين يربط بين المفردات ذات الأصل الواحد في اللسانيات الاجتماعية: من كلمة circle بالإنكليزية إلى العاميات العراقية مثل جرخ (آلة الحدادة)، جراخ (مهنة شحذ السكاكين)، چراوية (غطاء رأس)، وچرگ (خبز دائري) كلّها تنحدر من فكرة الشكل الدائري، لكنها تتوزع عبر الحقول الاجتماعية والوظائف الحياتية عبر المجتمعات.

هكذا ، بين لابوف في نيويورك وكُبّة في بغداد، تقف عاصفة من اللسانيات الاجتماعية تجمع الشرق بالغرب، في تفاعلٍ متواصل بين الهوية واللغة والطبقة الاجتماعية.


تابعنا على
تصميم وتطوير