صحيفة ووكالة
الإخبارية المستقلة
السبت 2025/9/6 توقيت بغداد
معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين
الخوف وليس السأم من يطيح بهم .. كرم نعمة 


المشاهدات 1068
تاريخ الإضافة 2025/08/27 - 10:09 AM
آخر تحديث 2025/09/05 - 7:10 PM

الخوف وليس السأم من يطيح بهم

 كرم نعمة 

 

 بيزوس ينفق الملايين لتأمين سلامته الشخصية.

إذا كان طبيعيا أن نتوقع تعرّض الزعماء السياسيين للاعتداء، لذلك تنفق الحكومات مبالغ طائلة على حمايتهم، فكيف نفسّر أن رؤساء الشركات التكنولوجية الكبرى ينفقون ملايين الدولارات على الأمن الشخصي؟ هذا السؤال مفتاح لفهم زمن تُدير فيه شركات قليلة أعصاب الناس وخياراتهم.

يكفي أن نعرف أن ميزانيات الأمن للرؤساء التنفيذيين في عشر شركات تكنولوجية كبرى، بينها ميتا وألفابت وأمازون وتسلا، أعيد تقييم بروتوكولاتها في عام 2024 وارتفعت إلى أكثر من 45 مليون دولار. دفعت ميتا وحدها أكثر من سبعة وعشرين مليون دولار لتأمين مارك زوكربيرغ. ويسافر إيلون ماسك برفقة ما يصل إلى عشرين متخصصا أمنيا.

لماذا؟ لأن اليوتوبيا الرقمية التي وُعدنا بها انقلبت سطوةً عمياء وجشعا لا يخضع للمساءلة. شركات تتحكم بالأهواء والأموال والأصوات واليوميات. صار كثيرون يرون في هؤلاء الأثرياء سببا مباشرا لما هو خاطئ في العالم. أحد مديري شركات الأمن الأميركية التي تؤمّن ماسك وجيف بيزوس قال: لم نشهد تهديدا أو قلقا أكبر مما هو عليه اليوم. العبارة ليست تحذيرا عابرا، بل تلخيص لمزاج عام فقد ثقته في الوعود.

رؤساء شركات التكنولوجيا عرضة للخطر بسبب الشهرة، وبسبب العداء الذي يتغذّى على أرباح فاحشة، وإساءة استخدام البيانات. كل ذلك صنع صورة جديدة للمدير التنفيذي: ليس مجرد ثري، بل لاعب سلطة. والسلطة تستدعي خصوما، وتستدرج غضبا.

قبل سنوات كتبت هنا أن السأم قد يطيح بهؤلاء. لم أكن مصيبا بالكامل. السأم مرض الرفاه وقد يصيبهم. رأيناه يلمّ ببيزوس عندما تجاوزت ثروته مئتي مليار دولار. لكنه ليس السبب الحاسم. الذي يتقدّم الآن هو الخوف، خوف مادي من التهديد المباشر، وخوف رمزي من مساءلة اجتماعية تأخذ شكل فضيحة.

التهديد الأمني يعكس بنية اقتصادية: شركات وادي السيليكون تضخّمت وصارت مربحة إلى درجة أنها تحوّلت إلى آلة طباعة للنقد، همها تجنّب الخطأ الكارثي فقط. من يدفع الكلفة؟ نحن المستخدمين. نسير مغمضي العيون خلف طلبات التطبيقات. هنا يتشكّل حقل الاستياء. ملايين الأصابع على الشاشات، ويد واحدة طائشة في الشارع تكفي لتبرير قافلة من الحراس.

مع ذلك، لا يتوقف كبار وادي السيليكون عن خطاب الطهرانية: نحن هنا لتوحيد الإنسانية. الربح أثر جانبي. الواقع يكذّب هذه البلاغة ورأسمالية رقمية تزداد شراسة. حين تقول الشركات “المستخدم في قلب كل قرار”، أو “نقرّبك ممّن لا تراهم كل يوم”، فإنها تخفي وراء الوعود استحواذا على كمّيات لا تنفد من البيانات الشخصية. إذا لم تكن تدفع ثمن الخدمة فأنت المنتج.

الفكرة بأن الغد مختلف عن اليوم علامة إنسانية أصيلة. لكنها لا تمنح فيسبوك وإكس وأمازون حق احتكار المستقبل. صار الناس أكثر إدراكا أن التكنولوجيا ليست مرادفا لجزع المدراء وجشع المساهمين. هناك دائما مساحات للمقاومة المدنية والقانونية والثقافية. يمكن إعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والتقنية بحيث لا تزلق إلى عبودية طوعية، ولا إلى قطيعة عبثية.

الحقيقة القبيحة بدأت مع فيسبوك ولن تنتهي بالذكاء الاصطناعي. كل موجة تقنية تَعِد وتبتلع. لكن التلقّي تغيّر والمستخدم، وإن بدا وحيدا، صار يعرف ثمن نقرة واحدة. يعرف أن الخصوصية ليست ترفا، وأن الوقت الذي يبدّده ليس ساعة فراغ، بل جزء من عمره.

لهذا لا يبدو مدراء الشركات التكنولوجية سذّجا. يحمون أنفسهم. يدفعون أكثر مما تدفعه حكومات لحماية زعمائها. يفعلون ذلك لأن الخوف وليس الملل هو ما يطيح اليوم. خوف ينتج من فجوة الثقة، ومن اقتصاد يستثمر في الانتباه البشري كمنجم بلا قاع.

هكذا حين يتضخّم النفوذ بلا مساءلة، تصبح الفاتورة أمنية قبل أن تكون أخلاقية. وعندما نرى طائرات خاصة تحطّ، وحلقات حراسة تُشدّد، فلأن الحقيقة الأعمق تكمن في مكان آخر: في شاشاتنا. هناك يبدأ الخوف. وهناك أيضا يمكن أن يبدأ الإصلاح.


تابعنا على
تصميم وتطوير