وانت تقرأ كتاب (( شذرات بغدادية ))سترى من فورك انك تتبع ازقة وشوارع مدينة مفعمة بالحياة تختلط بين ثناياها الازمان المتعاقبة والامكنة والشواهد التاريخية وعمرها اكثر من عشرة قرون يوصفها كتّاب التاريخ ومازالوا ، بانها رمح الله في الارض ومرتكزه وجمجمة الحضارة وعقل الانسانية الناطق بالحكمة والمعرفة.
هنا يطالعنا الكاتب البغدادي الاصيل حميد خليل القيسي في كتابه :شذرات بغدادية ، متناولاً ازميلاً انثروبولوجياً اجتماعياً وهو يتحرى الاصول البغدادية بشواخصها وعراقة اهلها .
انها تجربة كتابية نادرة وتأصيلية عن السلوك البغدادي تجعلك تتحول في فصول الكتاب الاربعة من فصل الى اخر وكانك متجول نهم يتبع خريطة انسانية يختلط فيها الجد بالمتعة الفكرية والحكمة بالادب والازمان بالامكنة والحديث بالقديم وتناقضات جمة و احداث كبيرة طبعت بغداد عاصمة الدنيا طوال مئة عام في تطور مدنيتها .
فبالقدر الذي انصرف فيه الكاتب حميد القيسي في الفصل الثاني الذي سلط الضوء فيه على شخصيات نافذة ، فانه قد ذهب حقا في مجال السرد الكتابي الأنثروبولوجي المرتبط بالشخصيات نفسها ومواقفها ودورها في صناعة الحياة. وعد الفصل تحقيقاً اصيلاً في ممارسة أنواع من التعبير المختلفة التي تندرج تحت فئة الأسلوب وفي كيفية فهم هذه الشخصيات الاجتماعية النافذة التي شغلت في الوقت نفسه حيزاً اجتماعياً وثقافيا وسياسيًا وانسانياً مهماً على مدار مئة عام . كما انها ظلت مرتبطة بخصوصية تاريخية، وتحليل ثقافي، ونظرية اجتماعية ومؤسسية خصت بغداد نفسها او في تطور الرؤى لدى المجتمع البغدادي ، وهو امر يزيل اوهام الشك بين بغداد الواقعية وبغداد المتخيلة في روايات الازمنة الماضية .
وفي الفصلين الاخيرين من كتاب شذرات بغدادية ، ينقلك الكتاب من فوره من الفضاء البغدادي الانثروبولوجي الخاص الى الفضاءات الانسانية العامة. اذ جاء الفصل الثالث والذي خص الدين والحياة ليكون من أكثر فصول الكتاب تعبيرا عن خصوصية العلاقات الإنسانية داخل الفواعل المتراكمة بعواطف الانسان البغدادي ، وتجسيدا للعوالم الداخلية المصغرة للمدينة،اذ ضم الفصل نصوصا مختارة من الكتاب الكريم التي يمكن ان نتلمسها بمثابة مستودع روحي لا يقدر بثمن في الانسانية والايمان والتفاعلات الأسرية وطقوسها والقوة الانسانية الحصرية في عالم لم يخلو من فقراءه مثلما هم اغنيائه كما تتحسسه مدينتنا في عصور تاريخها، بعيدا عن الاحصاءات والنسب والارقام الباردة الوعي .
فالكاتب كان له
منهجه وميوله وأسلوبه ورؤيته الإنسانية، وتأثر تأثيراً واضحاً بالتراث البغدادي والعراقي الأصيل ونجح فى إبراز الحياة البغدادية في الكثير من اوجه تراث اهلها ولاسيما في الفصل الرابع الذي لامس سوانح الكلام الجامع ، حتى يمكن القول أن كتاب شذرات بغدادية يعد بلا شك نافذة على القرن الماضي في الكثير من تفاصيله وجزئياته وحرزا تاريخيا وثقافيا اصيلاً يلامس الحاضر والمستقبل كما لامس الماضي برجاله واحداثه واطلاله .
ختاماً : وبهذا فان كتاب الشذرات البغدادية والكتب الخمسة التي صدرت للكاتب العزيز حميد القيسي نفسه خلال السنوات العشر الماضية والتي اختصت جميعها في انثروبولوجيا بغداد او علم الانسان البغدادي كما يمكن لي تسميتها، ما سيتوافر على القاريء بلا شك ، ان خطابا جماليا بعراقته يجمع بين دفتيه أسماء رجال وشواهد مكانية وتاريخية لم يجمعها زمن واحد وإن كنا قد تنفسنا جميعاً على ارض مدينتنا الشامخة ،مدينة السلام نفسها.انها بغداد بوابة الدنيا وعاصمتها .