لعلنا نتذكر ذلك التصريح المعلن والواضح لرئيس وزراء الكيان المحتل بنيامين نتنياهو، حين أكد أنه بصدد بناء شرق أوسط جديد، ذلك التصريح الذي أطلقه منذ طوفان الأقصى، وكرره في أكثر من مناسبة بعدها وقبلها أيضًا، حتى شهدنا ولم نزل التوغل في كل قطاع غزة، مع استمرار القتل المباشر والقصف الممنهج، حتى هذه اللحظة، وقد تجاوز عدد الشهداء في القطاع الخمسةَ والأربعين ألف شهيد، وبلغ عدد المصابين نحو أحد عشر ألفًا منذ السابع من أكتوبر العام الماضي، ونقل العمليات وتوسعها في الضفة الغربية مع الإبقاء على مسلمات الحرب القذرة في القطاع على جميع المستويات، وحتى كتابة هذه السطور تعرض مستشفى كمال عدوان شمال القطاع إلى قصف مكثف وعنيف.
ومن بعد الضفة إلى لبنان الجريح الذي قال نتنياهو إن عمليات الاحتلال العسكرية فيه بهدف إعادة المستوطنين إلى شمال فلسطين المحتلة، بإنشاء خط عازل على الحدود اللبنانية، وتقتضي الوقائع فهم فكرة الذرائع التي تلقى دعمًا غربيًا متصلًا، مثلما قيل عن هدف تصفية "حماس"، وها نحن الآن بصدد خرق اتفاقية 1974 لفض الاشتباك مع سوريا، التي وُقّعت بعد حرب أكتوبر (1973)، واستولى الاحتلال على جبل الشيخ ذي الأهمية الإستراتيجية القصوى، وعلى المنطقة العازلة، وتوغلت قوات المحتل البغيض إلى خمسةٍ وعشرين مترًا جنوب دمشق، بل وأقدم على تجريد سوريا من قواتها العسكرية، مخازن السلاح، الأسطول البحري، الطائرات، ومراكز الأبحاث، بذريعة عدم سيطرة الفصائل المسلحة على السلاح، وتهديد أمن الكيان المحتل، تلك الفصائل التي أعلن زعيمها صراحة أنه ليس بصدد صراع مع "إسرائيل"، وربما نتفهم ـ على مضض ـ أنها مناورة سياسية، أو نرتاب في جميع التصريحات التي لا تتفق مع الخلفية الأيدولوجية لما تُسمي بـ"المعارضة"، وقد بعث الرئيس الأمريكي جو بايدن، والذي ستنتهي ولايته في غضون أقل من شهر، بوفد يضم دبلوماسيين كبارًا برئاسة مساعدة وزير الخارجية باربرا ليف، لإجراء مباحثات مع الشرع، في العاصمة دمشق، وناقش مسألة رفع "هيئة تحرير الشام" من قوائم الإرهاب، ومسائل أخرى مثل القضايا المتعلقة بمصير مواطنين أمريكيين اختفوا في عهد نظام بشار الأسد.
إذن نحن أمام حقائق واضحة، وليست مجرد قراءات مشهدية، مفادها هذا التوسع في رقعة الحرب من فلسطين إلى لبنان إلى أجزاء كبيرة ومهمة وحيوية في سوريا، الأمر الذي لابد أن تتجدد معه مخاوف التقسيم وَفق الرؤية الصهيوأمريكية، والتي ربما ارتأت عدم إمكانية تحقق ذلك دون مساعدة مواربة من أطرافٍ إقليمية لها مصالحها المباشرة في المنطقة، والتي بدورها لا تعدم ذرائعها في التدخل عبر وكلائها، مع الحفاظ على الموقف المعلن برفض ممارسات الاحتلال، حتى وإن بدت خسائر المواجهات فادحة، طالما أنها في صفوف الوكلاء، وجدير هنا استدعاء الروايات الإسرائيلية عن تصفية حماس في غزة، وتقليم أظافر حزب الله في لبنان، وعدم تمكين الفصائل المسلحة من السيطرة على سلاح سوريا.
ومع هذا التمدد الممنهج باتجاه ما دعا إليه نتنياهو ومعه الدعم الأمريكي والأوربي بشرق أوسط جديد، ومع مخاوف اتساع رقعة الصراع، لابد من نظرة مستقبلية تتوخى بها دول المنطقة الحذر بخطوات استباقية، تقطع الطريق على الكيان وأعوانه، وكذا تحجم تطلعات الأطراف الإقليمية ذات المصالح، وهنا يبرز التحرك العراقي بترجمة الحرص على وحدة الأراضي السورية، والاستعداد لدعم عملية سياسية شاملة، ومن واقع عضويته في التحالف الدولي لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي، فهناك التزام صريح بمواجهة أي تهديد إرهابي يمس حدوده، كما كانت خطوة مهمة توقيع البيان المشترك بين رئيسي مجلسي النواب في العراق والأردن، التي تدعم مخرجات اجتماع العقبة بشأن الأوضاع في سوريا، وبوقف العدوان على قطاع غزة، وحول اجتماعات العقبة فلا مجال لأي تخوفات شعبية سورية من محاولة فرض الوصاية الدولية على الشأن السوري، كما غرد البعض على منصات التواصل بهذا المعنى، ذلك أن تلك المخرجات إنما هي الأسباب الضرورية بل والمُلحة للخروج في أسرع وقت من نفق التخبط بين نظام ولى غير مأسوف عليه، وتنظيم يتصدر المشهد، ويقدم نفسه بديلًا مناسبًا لإحلال الديمقراطية.
وإلى أن يثبت ذلك أو تتبخر الوعود، فلابد من اتخاذ احتياطات المرحلة التالية بخارطة طريق بمثابة سفينة الإنقاذ، التي تحمل على متنها برنامجًا متكاملًا لتحقيق الاستقرار عبر وضع دستور جديد للبلاد، يضمن تأسيس نمط يحافظ على تماسك الدولة ووحدتها داخليًا ويحدد علاقتها عربيًا وإقليميًا ودوليًا وصولًا إلى بناء جيش قوي وطني حقيقي يردع أي تهديد ويسترد المنهوب من الأرض في غفلة الأحداث، ولعلها خطوات أكثر إلحاحًا في هذا التوقيت، حتى لا تواجه المنطقة أشباح سايكس بيكو مرة أخرى والحسابات هذه المرة أكثر تعقيدًا.