هل نُعلِّم لننجح… أم نُعلِّم لننجو؟
أ.د. إسماعيل محمود محمد العيسى
في العام 2014، في أحد أحياء “ريو دي جانيرو” البرازيلية الفقيرة، كان طفل يُدعى "فابريزيو"يسير حافي القدمين يوميًا قرابة خمسة كيلومترات للوصول إلى فصل دراسي داخل كنيسة مهجورة؛ لم تكن هناك طاولات حقيقية؛ ولا سبورة صالحة؛ ولا كتب مدرسية، لكن فابريزيو كان يردد جدول الضرب من كتاب تالف وجده في مكب النفايات، سألته صحفية أعدّت تقريرًا عن التعليم في العشوائيات: “لماذا تفعل كل هذا؟” فأجاب بكلمات حفرت أثرًا عميقًا في الذاكرة:
“لأن المدرسة هي المكان الوحيد الذي أشعر فيه أنني لا أعيش في القمامة.”
لم يكن ذلك الطفل يطارد لقبًا أكاديميًا أو مقعدًا دراسيًا مرموقًا؛ كان يبحث عن النجاة؛ النجاة من واقعٍ قاسٍ؛ ومن حاضرٍ يفتقر إلى الكرامة.
هذه القصة تلخص؛ ببساطة؛ جوهر التعليم الحقيقي: أن يكون بابًا للارتقاء لا أداة للتصنيف؛ ووسيلة لتحرير الإنسان من القبح والجهل؛ لا مجرد سُلَّم للوظيفة أو الترقية.
وفي خضمّ هذه الصورة المؤثرة؛ أجدني أستعيد تجربة اليوم ذاته؛ فبعد أن أنهينا جميع متطلبات الامتحان التنافسي للطلبة المتقدّمين إلى الدراسات العليا؛ وأجرينا معهم المقابلات العلمية الفردية؛ جلستُ في حوار ودي مع عدد من الزملاء في كليتي التي أنتمي إليها؛ كانت جلسة صريحة؛ راقية في مضمونها؛ ومحفّزة في دلالاتها.
تحدث بعض الزملاء الكرام عن طبيعة المقالات والآراء التي أطرحها بشأن واقع التعليم العالي؛ وأشاروا – بقدرٍ من الحصافة – إلى أن بعض ما أكتبه قد يُفهم على نحوٍ لا يُراد له؛ أو قد يُفسَّر باعتباره موجهًا ضد أشخاص أو جهات، لا سيما حين أكتب بصراحة ووضوح، وربما من دون تلك المجاملة المعتادة في الوسط الأكاديمي.
وكان سؤالي هادئًا ومباشرًا: هل وجد أحدكم في كتاباتي إساءة إلى شخص بعينه؟ هل ذكرت اسمًا أو تعمّدت التعرّض لأحد؟ الواقع أنني لا أكتب بدافع النقد من أجل النقد؛ ولا أقصد الإحراج أو التشهير؛ بل أتكلم – ما استطعت – عن ظواهر ومسارات وممارسات تحتاج إلى مراجعة؛ بهدف لفت نظر المعنيين إلى ما قد يكون غائبًا عنهم بحكم طبيعة العمل أو ازدحام الملفات.
الكتابة في الشأن الأكاديمي ليست ترفًا؛ بل مسؤولية، ومَنْ كتب في قضايا التعليم بصدق؛ إنما يؤدي جزءًا من الواجب المهني والوطني؛ لأننا لا نعيش خارج هذا النظام؛ بل نحن شركاء في بنائه؛ ومن حقنا – بل من واجبنا – أن نشارك في إصلاحه.
ومن هذا المنطلق؛ فإن ما يدفعني للكتابة هو ما أراه يوميًا من تباينات مؤلمة بين طموحات الطلبة المتقدمين للدراسات العليا؛ وبين واقع البيئة التعليمية التي يُفترض أن تحتضنهم؛ الطلبة يأتون إلينا حاملين آمالهم؛ رؤاهم؛ حماستهم للتغيير؛ لكننا؛ للأسف؛ كثيرًا ما نقابل تلك الطموحات بمنظومة ما تزال تفتقر إلى البنية المناسبة؛ والمنهج المناسب؛ والمرونة الكافية.
السؤال المحوري الذي طرحته على نفسي بعد نهاية مقابلات الطلبة: ما الذي ننتظره من التعليم؟ هل نحن نعلّم لننجح في امتحانات تصنيفية؟
أم نعلّم لنُخرّج طاقات قادرة على قيادة الإصلاح والتغيير؟ وهل البيئة الأكاديمية الحالية في العراق تمنحنا الأدوات الحقيقية لصناعة الإنسان الذي نحتاجه للغد؟
الجواب – كما يراه الكثير من المخلصين – ليس ورديًّا؛ هناك إنجازات؛ نعم؛ وهناك جهود مخلصة؛ بالتأكيد؛ لكن التحديات بنيوية: بنى تحتية مرهقة؛ تداخل إداري؛ مناهج تقليدية؛ غياب واضح للربط بين مخرجات التعليم وسوق العمل؛ ضعف في الحوكمة الجامعية؛ وفجوة بين الخطاب والواقع.
ورغم كل ذلك؛ فإن في العراق عقولًا شبابية يُراهن عليها؛ وأساتذة يشتغلون بصمت،؛ وطلبة يتحدّون الظروف؛ لكنّ هذه الطاقات تحتاج إلى من يُحفّزها؛ لا من يُحبطها؛ إلى رؤية وطنية كبرى تُدرك أن التعليم ليس قطاعًا تابعًا؛ بل هو القاطرة الأولى للتنمية.
إن ما نحتاجه اليوم هو مراجعة صادقة لفلسفة التعليم الجامعي والدراسات العليا، مراجعة تنقلنا من منطق التوسعة الكمية إلى منطق النوعية؛ من بيروقراطية القبول إلى رؤية المشروع العلمي؛ من التعليم كإجراء إلى التعليم كرسالة.
علينا أن نمنح الأستاذ بيئة تُشعره بالأمان العلمي لا بالضغط الإداري؛ وأن نمنح الطالب أفقًا معرفيًا لا مجرد منهج تقليدي؛ وأن نعيد للجامعة دورها الحقيقي بوصفها عقل الدولة لا ذراعًا من أذرعها.
وإذا كنّا نخشى من النقد أو من الفهم الخاطئ للكتابة؛ فلنتذكر دومًا أن ما لا يُقال بصراحة لا يُصلح الواقع؛ وأن الإصلاح لا يأتي من صمتٍ طويل؛ بل من كلمةٍ مسؤولة؛ صادقة؛ تُقال في وقتها.
وختامًا… إننا لا نكتب كي نُسجّل موقفًا؛ ولا نوجّه أقلامنا نحو أحد؛ بل نحو فكرة؛ نحو مستقبل نتمناه لأبنائنا وطلبتنا، لأن التعليم ليس عن الحاضر فقط؛ بل هو وعدُ وطنٍ لأجياله بأن القادم سيكون أفضل.
لأننا ببساطة… لا نُعلّم لنُرضي، بل نُعلّم لنُحيي … لننجو.