حين يصبح الطعام سلاحا
أسامة سرايا
تحت وطأة كارثة إنسانية غير مسبوقة، عنوانها الجوع والموت البطىء، وسلاحها الحصار والتجويع، ومرتكبها سلطة الاحتلال الإسرائيلى، تحول حق الحياة فى غزة إلى امتياز، وأصبح الطعام والدواء منحة بتصاريح مشروطة أو لا يتم منحها إطلاقا.
غزة تنزلق فى مجاعة، تعم كامل سكان القطاع، البالغ عددهم نحو 2,1 مليون نسمة، وهم الآن بالمرحلة الرابعة على مقياس للجوع، وضعه تقرير «التصنيف المرحلى المتكامل للأمن الغذائى».
التقرير صدر فى 12 مايو لتقييم الوضع الغذائى بالقطاع توقع أن يجوع نحو 470 ألف شخص إلى حد «الكارثة» (المرحلة الخامسة، الدنيا فى سلم التصنيف)، خلال المدة من 11 مايو إلى نهاية سبتمبر 2025.
قدّم التقرير إشارة إلى تصنيف آخر مهم، لرصد وضع «سوء التغذية الحاد»، وهو أيضًا من 5 مستويات، وقد وصل بعض المناطق مثل شمال غزة ورفح إلى المستوى الرابع والوضع يؤول للأسوأ بنهاية سبتمبر المقبل حسب المؤشرات.
المجاعة ضربت موعدا جديدا، طالت جميع الفئات الفلسطينية دون استثناء، فى ظل حصار أدى إلى ارتفاع عدد ضحايا الأطفال إلى 70 طفلا، توفوا نتيجة سوء التغذية الحاد، ونقص الحليب والمكملات الغذائية، وذلك بعد وفاة رضيع فى شهره الثالث.
المستشفيات الفلسطينية، وأقسام الطوارئ، استقبلت أعدادا غير مسبوقة من الجائعين من مختلف الأعمار، وهم فى حالات من الإجهاد والإعياء الشديد، وباتوا عرضة للموت المحتم، نتيجة الجوع وتجاوز أجسادهم قدرتها على التحمل، حتى الصحفيون طالتهم المجاعة، ما دفعهم إلى تنظيم مسيرة فى وسط مدينة غزة، رافعين شعارات، تطالب بإدخال المساعدات الغذائية والطبية بشكل عاجل.
أُغلقت المعابر الحدودية المؤدية إلى غزة لأكثر من أربعة أشهر - وهى أطول فترة واجهها السكان على الإطلاق - مما تسبب فى ارتفاع أسعار المواد الغذائية فى الأسواق إلى مستويات فلكية، وجعل ما تبقى من الطعام بعيدًا عن متناول معظم الأسر.
استنفد برنامج الأغذية العالمى آخر مخزوناته الغذائية، لدعم مطابخ الوجبات الساخنة للأسر فى 25 إبريل، وقبل ذلك بشهر تقريبا، أغلقت جميع المخابز الـ 25 التى يدعمها برنامج الأغذية العالمى أبوابها، بسبب نفاد دقيق القمح ووقود الطهو، فى الوقت نفسه، هناك 116,000 طن من المساعدات الغذائية - وهى كافية لإطعام مليون شخص، لمدة تصل إلى أربعة أشهر - فى ممرات الإغاثة.
من يُحاسب إذن؟
تتحمل إسرائيل، كقوة احتلال بموجب اتفاقيات جنيف، المسئولية الكاملة عن حياة وسلامة السكان المدنيين فى قطاع غزة، وقد بدأت محكمة الجنايات الدولية (ICC) فى جمع الأدلة، لفتح تحقيق رسمى بجرائم الحرب المحتملة، منها سياسة التجويع الممنهج.
لكن برغم هذه الخطوات، فإن آليات المحاسبة تبقى مُعطّلة أو بطيئة، خصوصا مع وجود ضغوط دبلوماسية دولية، تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية، تحاول صرف الأنظار أو تأخير الإجراءات، مما يُرسّخ سياسة الإفلات من العقاب.
إن ما يحدث فى غزة ليس أزمة إنسانية طارئة فحسب، بل هو اختبار صارخ لضمير العالم، تحوّل رغيف الخبز إلى عمل بطولى، وقطرة الماء إلى فعل مقاومة، والطفولة إلى هدف عسكرى، وإن لم يتحرّك العالم اليوم لوقف هذه الجريمة، فإن المجاعة فى غزة لن تكون مجرد مأساة محلية، بل وصمة عار فى جبين الإنسانية كلها.
نقلا عن " الاهرام "